حضارة نبي الله الملك سليمان

مقدمة: عهد سليمان – مملكة العلم والحكمة بأمر الله
في سالف العصر والأوان، وفي حقبة تاريخية فريدة، أشرقت شمس حضارة لم تشهد البشرية لها نظيرًا، حضارة تجاوزت حدود المألوف وتخطت آفاق الخيال. لم تكن هذه الحضارة وليدة الأساطير أو نتاج الخرافات كما قد يتصور البعض، بل كانت مملكة نبي الله الملك سليمان عليه السلام، الذي ورث عن أبيه النبي داود عليه السلام المُلك، وقام بتشييد دولته على أسس راسخة من “العلم” الذي آتاهما الله إياه، كما يشهد بذلك القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. لقد كان عهد سليمان تجسيدًا حيًا لقدرة الإنسان، حين يتسلح بيقين الروح المنزل ويتوج بالعلم، على تسخير الإمكانيات الهائلة التي أودعها الله في الكون، وبتأييد إلهي مباشر، لبناء نموذج فريد للحكم الرشيد والخلافة الواعية في الأرض. كانت مملكته برهانًا ساطعًا على أن القوة الحقيقية ليست في السطوة المادية فحسب، بل في التمكن من أدوات المعرفة، وفي القدرة على توظيفها لخدمة الحق والعدل والازدهار الإنساني.
مشهد من وادي النمل: لقاء الحضارات وصوت الحكمة الخالدة
في رحاب وادٍ فسيح، عُرف بـ”وادي النمل”، وهي أرض مملكة سبأ التي ذاع صيتها في الآفاق، يصل موكب نبي الله الملك، سليمان عليه السلام، على رأس جيشه العرمرم، ذلك الجيش الذي لم يكن مجرد حشد عددي، بل كان منظومة متكاملة من القوة والكفاءة والانضباط، تسير وفق أعلى درجات التخطيط والتنظيم. ولم يكن سليمان، بحكمته ونبوته، يسير منفردًا في مقدمة هذا الزحف الحضاري والعسكري المهيب، بل كانت ترافقه في موكبه شخصية محورية، تلك التي كانت يومًا ما ملكة سبأ المتوجة، صاحبة الأمر والنهي في قومها، ولكنها الآن، وبعد رحلة إيمانية عميقة، وبعد أن تجلى لها الحق وسطع نور اليقين في قلبها، وبعد خضوعها الطوعي لسلطان الحجة والبرهان، أصبحت تسير في ركاب نبي الله الملك الأوحد، سليمان، كـ”نملة” – وهو تعبير يشير إلى دورها الجديد كقائدة سابقة لقومها، اهتدت إلى الحق، وأصبحت الآن جزءًا من هذا المشروع الحضاري الإيماني العظيم، وربما كانت مرشدة لسليمان وجيشه في دروب مملكتها السابقة.
فلما أبصر أهل الوادي، أي “النمل” – وهم رجال مملكة سبأ وجيشها المعروفون بتنظيمهم الدقيق واعتدادهم بقوتهم ومساكنهم المحصنة – ملكتهم السابقة تسير في ركب سليمان، انتابتهم مشاعر متضاربة. دبت فيهم الحمية الوطنية، أو ربما تسربت إلى قلوبهم الشكوك والظنون. فخرجوا من مساكنهم، أو همّوا بالخروج، وقد تأهبوا للمواجهة، واستعدوا لمواجهة سليمان. ربما ظنوا في لحظة غضب أو سوء فهم، أن ملكتهم قد خانتهم وانضمت إلى من اعتبروه عدوًا، أو لعلهم اعتقدوا، في سيناريو آخر لا يقل مرارة، أن سليمان قد أسرها وأجبرها على مرافقته، وأحضرها معه لإذلالهم وإظهار قهره وسيطرته عليهم. وفي كلتا الحالتين، كانت النتيجة واحدة: بوادر مقاومة وتأهب للمواجهة ضد سليمان وجيشه الجرار.
في تلك اللحظة الحرجة، أدركت “النملة” – الملكة السابقة ذات البصيرة النافذة – خطورة الموقف. رأت بأم عينها ردة فعل قومها، ونيتهم في المواجهة، لكنها، بحكمتها الجديدة واعتقادها الراسخ، علمت يقينًا أن هذه المواجهة لن تكون إلا هلاكًا محققًا لهم. فكيف لقوة، مهما بلغت، أن تصمد أمام جيش سليمان، تلك القوة الجبارة التي تستمد زخمها ليس فقط من العدد والعتاد، بل من العلم والتأييد الإلهي؟ من موقعها الجديد، كشاهدة على الحق ومنادية به، وبدافع من الشفقة الصادقة على قومها، ورغبة أكيدة في منع إراقة الدماء ووقوع الفتنة، رفعت صوتها، قاطعة أي تفكير في المقاومة، وموجهة نداءها العاجل والمباشر إليهم، ذلك النداء الذي خلده القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. لقد كان نداءً حاسمًا، يحمل في طياته أمرًا بالتراجع الفوري والعودة إلى مساكنهم، واعترافًا ضمنيًا بأن لا قبل لهم بمواجهة هذه القوة المنظمة، هذه الحضارة القائمة على العلم والتأييد الإلهي، والتي قد تدمرهم عن غير قصد لشدة اندفاعها وضخامتها وقوة تنظيمها.
يسمع سليمان، الذي كانت “النملة” ترافقه وربما تسير بجواره، هذه الكلمات الحكيمة الموجهة إلى قومها، هذه الدعوة الصادقة لفض الاشتباك المحتمل وتجنيب الجميع ويلات مواجهة خاسرة. فيرتسم على وجهه الشريف تبسم عميق ذو مغزى، تبسم ليس للسخرية أو الاستهزاء، بل تبسم الحكيم الذي يرى كيف أن الحق الذي جاء به، والعلم الذي أوتيه، والحكمة التي يدعو إليها، قد أثمرت هذا الموقف النبيل. إنه تبسم الإعجاب والتقدير لدور هذه القائدة السابقة، التي أدركت الحقيقة وانضمت طوعًا لركب الإيمان، وكيف أنها بكلمة حكمة منها، استطاعت أن تحل أزمة كادت أن تقع، وأن تمنع فتنة كادت أن تشتعل. إنه تأكيد على أن الانضمام لهذا المشروع الحضاري الإيماني القائم على الحق هو عين الحكمة والرشاد. هذا المشهد الفريد، بكل ما يحمله من دلالات وعبر، هو ما دفع سليمان مباشرة إلى التوجه إلى ربه بالحمد والشكر، معبرًا عن امتنانه العميق لنعم الله عليه وعلى والديه، وسائلًا ربه أن يلهمه دائمًا فعل الصالحات التي ترضيه، وأن يدخله برحمته في عباده الصالحين: ﴿فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾.
جيش سليمان: منظومة القوة والعلم المتقدم
لنستعرض الآن طبيعة جيش سليمان كما يصوره القرآن ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾. لم يكن هذا الجيش مجرد تكتل بشري، بل منظومة قوى متكاملة. “الإنس” هم القوام البشري الطبيعي للجيوش. أما “الجن”، ففي سياق حضارة سليمان العلمية، ليسوا كائنات أسطورية غيبية، بل هم نخبة من العباقرة والعلماء والمهندسين والفنيين وأصحاب القدرات العقلية والإبداعية الفائقة، الذين بدت أعمالهم خارقة للعادة لفرط تطورها ودقتها، فنسبت إلى “الجن” لما يرتبط بهذا اللفظ من معنى الخفاء والقوة غير المألوفة. هؤلاء هم من سخرهم الله لسليمان بقدراتهم العلمية والتقنية: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾. ثم “الطير”، وهم ليسوا سربًا من الطيور، بل يمثلون قوات النخبة عالية التخصص، سلاح سليمان الاستراتيجي، الوحدات فائقة السرعة والكفاءة، والمتقنة لـ”منطق الطير”. هذا العلم، “منطق الطير”، لم يكن فهم لزقزقة العصافير، بل كان منهجية متكاملة للقيادة والسيطرة والاتصالات، تجمع بين سرعة نقل المعلومات وتنفيذ الأوامر بسرعة البرق – “طار الخبر” – وبين السيادة على تقنيات الطيران المتقدمة آنذاك، وربما تسخير قوى الطبيعة كالرياح، التي جعل الله جريانها بأمر سليمان مسيرة شهر في الذهاب وشهر في الإياب. إنها القوة المنبثقة عن العلم والتكنولوجيا والمعرفة، المسخرة بأمر الله لخدمة الحق وإقامة العدل.
براعة السرد القرآني وبداية القصة الحقيقية: لغز غياب “الهدهد“
من براعة السرد القرآني أنه لم يبدأ القصة بتسلسل زمني تقليدي، بل انطلق من مشهد “وادي النمل” المتقدم، ليثير فضول القارئ ويشده لمعرفة كيف وصلت الأحداث إلى هذه النقطة. ثم يعود بنا السياق القرآني إلى الوراء ليكشف لنا عن جذور القصة. فما الذي أوصل نبي الله سليمان وجيشه العظيم إلى عقر دار مملكة سبأ؟
تبدأ القصة الحقيقية من داخل مملكة سليمان، حيث النظام والكفاءة هما السمة الغالبة. في إطار مراجعته الدورية لقواته، وتحديدًا وحدات “الطير” المتخصصة في الاستطلاع وجمع المعلومات، يلاحظ سليمان غياب عنصر مهم: “الهدهد”. وهنا، يجب أن نتجاوز التصور السطحي لـ”الهدهد” كطائر. فكلمة “هدهد” في اللغة تشير إلى الحركة الرقيقة المنتظمة والمتكررة، التي تتسم بالخفاء. وبالتالي، فـ”الهدهد” في جيش سليمان، كما أكدتَ، لم يكن إلا لقبًا لجاسوس محترف، أو مبعوث استخباراتي بشري من الطراز الرفيع، فائق التدريب والكفاءة. كانت وظيفته الحساسة تتطلب التنقل الدؤوب والمستمر، بخفة وسرية، لجمع أدق المعلومات ونقل أخطر الرسائل.
غياب هذا العنصر الاستخباراتي البالغ الأهمية دون إذن مسبق أثار حزم سليمان، فالأمر يمس أمن الدولة. لذا كان تهديده واضحًا وقاطعًا، إلا إذا قدم “الهدهد” سببًا وجيهًا يبرر غيابه: “لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ”.
عودة “الهدهد”: تقرير استخباراتي يغير مسار الأحداث
لم يطل انتظار سليمان. عاد “الهدهد” سريعًا، ليس بوجه المذنب الخائف، بل بوجه الجندي الذي أنجز مهمة تفوق التوقعات. لم يقدم عذرًا واهيًا، بل قدم “سلطانًا مبينًا” تمثل في إنجاز استخباراتي باهر. وقف أمام سليمان بثقة، وقدم تقريره المذهل: “أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ”. لقد كشف عن وجود مملكة قوية في الجنوب، مملكة سبأ، وأن نظام الحكم فيها فريد، إذ تحكمهم امرأة تتمتع بكل مقومات القوة والثراء: “إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ”. والأهم من ذلك، وصف مركز سيادتهم وقوتهم: “وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ”. لكن “الهدهد” لم يقف عند حدود الوصف المادي، بل كشف عن الخلل الجوهري في عقيدتهم: “وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ”. وقدم تحليلاً لسبب هذا الضلال: “وَزَيَّن لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ”. لقد كان تقريرًا استخباراتيًا شاملاً ودقيقًا، يغطي كافة الجوانب، ويليق بمبعوث محترف في مملكة العلم والحكمة.
من الاستخبارات إلى الدبلوماسية: رسالة الحق وموقف ملكة سبأ
بعد التثبت من صدق “الهدهد”، لم يلجأ سليمان إلى القوة مباشرة، بل اختار طريق الدعوة والحجة. كلف “الهدهد” نفسه بمهمة دبلوماسية، ليحمل رسالته إلى سبأ: “اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ”. مضمون الرسالة كان واضحًا وحاسمًا: “إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ”.
وصل الكتاب إلى ملكة سبأ، التي أدركت فورًا خطورته وأهميته، ووصفته بالكتاب “الكَرِيم”. وكعادة القادة الحكماء، شاورت “الملأ” من قومها: “يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ”. رجال دولتها أبدوا استعدادهم للمواجهة العسكرية، معتمدين على قوتهم: “نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ”، لكنهم فوضوا القرار النهائي لها. الملكة، بفهمها العميق لسياسات الملوك ونتائج الحروب الكارثية (“إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً”)، قررت اختبار نوايا سليمان أولاً بدلاً من المواجهة المباشرة. أرسلت وفدًا محملًا بهدية ثمينة، ليس كرشوة، بل كمسبار دبلوماسي لمعرفة ما إذا كان سليمان طالب ملك أم صاحب دعوة: “وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ”.
رد سليمان الحاسم وإنذاره الأخير
عندما وصل وفد سبأ بالهدية، رفضها سليمان بازدراء للمادة أمام ما آتاه الله من فضل، موضحًا أن رسالته أسمى من ذلك: “أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ”. لقد فهم أنها محاولة لصرفه عن هدفه. ثم جاء إنذاره الأخير، الذي لا يحتمل التأويل، موجهاً إلى مبعوث سبأ: “ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ”. لقد كان إعلانًا بأن وقت الحوار قد انتهى، وأن على سبأ أن تختار بين الاستجابة لدعوة الحق أو مواجهة قوة لا يمكنهم صدها.
تحدي العرش: استعراض مبهر لقوة العلم والتكنولوجيا
في خطوة استباقية تهدف إلى تقديم برهان عملي لا يقبل الجدل على التفوق الحضاري والعلمي لمملكته، وقبل أن يصل وفد سبأ معلنًا الخضوع، أراد سليمان أن يوجه رسالة بصرية قوية لملكة سبأ. لم يكن الهدف مجرد نقل عرشها المادي، بل كان التحدي، كما أوضحتَ، إعادة بناء نموذج مطابق لعرشها، أو حتى تصميم مجسم يفوقه في الدقة والإتقان والفخامة، وفي زمن قياسي يثبت تفوقه العلمي والهندسي الساحق. التفت إلى نخبة مجلسه، الذي يضم “الجن” (وهم العباقرة والعلماء والمهندسون) وأهل العلم المتقدم، وسألهم: “قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ؟”. كان السؤال عن القدرة على الإبداع الهندسي الفائق والإنجاز الفوري.
تقدم “عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ” – أي واحد من هؤلاء الخبراء المهرة ذوي القدرات الفائقة – وعرض إنجاز المهمة قائلاً: “أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ”. والمقصود بـ”مقامك” هنا، ليس مكان جلوسه، بل مقام معسكره العسكري الضخم الذي قد يستغرق فكه وتفكيكه شهورًا. فـ”العفريت” يعرض بناء هذا النموذج المعقد خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة.
لكن العرض الأكثر إبهارًا، والذي يمثل قمة التكنولوجيا السليمانية، جاء من “الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ” – وهو عالم رباني يمتلك معرفة تكنولوجية فائقة مستمدة من فهم عميق لسنن الكون. قال هذا العالم بثقة: “أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ”. وكلمة “طرفك” هنا، لا تعني طرفة عين، بل إنها تشير إلى رسوله البشري “الهدهد” دائم الحركة. والمعنى أن هذا العالم يتعهد بإنجاز المهمة الهندسية المعقدة بسرعة خارقة، قبل أن يتمكن “الهدهد” من إتمام مهمته الأخيرة والعودة منها، أي في فترة زمنية قياسية قد لا تتجاوز أيامًا أو أسابيع قليلة. إنها قدرة علمية وهندسية وتقنية فائقة على اختصار الزمن بشكل إعجازي. وبالفعل، تحقق هذا الإنجاز المذهل، فرأى سليمان النموذج المادي الدقيق لعرش سبأ قد اكتمل بناؤه واستقر أمامه: “فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي…”.
وصول الملكة: مواجهة التفوق الحضاري والصرح العلمي المبهر
وصلت ملكة سبأ إلى مملكة سليمان. وقبل اللقاء، أمر سليمان بإجراء تعديلات على نموذج عرشها الذي تم بناؤه: “قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ”. والتنكير هنا، لم يكن مجرد تغيير للملامح، بل كان يهدف إلى جعله أفضل وأفخم وأكثر إتقانًا من عرشها الأصلي، مع الحفاظ على جوهر تصميمه، ليكون الاختبار الحقيقي في قدرتها على إدراك هذا التطوير والتفوق السليماني. عندما عُرضت عليها هذه النسخة المحسّنة والمطورة، وسُئلت ذلك السؤال الذي يحمل في طياته تحديًا عن النوعية والجودة أكثر من كونه استفهامًا عن الشبه: “أَهَٰكَذَا عَرْشُكِ؟” (أي: هل عرشكِ الأصلي من هذا الطراز الرفيع وهذه الجودة العالية؟). أدركت الملكة بفطنتها أنه يشبه عرشها إلى حد كبير، لكنها بصيرتها كملكة خبيرة، رأت أنه يتفوق عليه في جوانب عديدة. كان الموقف بمثابة صدمة حضارية لها. فاختارت إجابة ذكية تعكس حيرتها واعترافها الضمني بالتفوق، مع محاولة للحفاظ على كبريائها: “قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ”. لقد رأت الشبه، لكنها أدركت أيضًا أنه أفضل وأكثر إتقانًا، فأحست بأن مُلكها وحضارتها يبدوان أقل شأنًا.
ثم يكشف القرآن عن سبب تأخر إيمانها رغم وضوح البراهين: “وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ”. أما هي، “وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ”. هذا “الصدود” لم يكن عن جهل، بل كان نتيجة لكبريائها الملكي، ولعدم رغبتها في الاعتراف الصريح بأن منظومتها الحضارية والدينية أقل شأنًا من منظومة سليمان.
ثم جاء البرهان الأخير الذي حسم الأمر. (لاحظ الانتقال المباشر في السرد القرآني دون واو العطف، مما يشير إلى أهمية المشهد أو سرعة الانتقال إليه): “قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ”. والصرح هنا، ليس مجرد قصر فخم، بل هو على بناء ذو طبيعة علمية متقدمة، قد يكون مرصدًا فلكيًا ضخمًا، أو مجمعًا للبحوث العلمية، أو مختبرًا بصريًا فائق التطور. “فَلَمَّا رَأَتْهُ” – ومجرد رؤيته من الخارج أو عند مدخله كان كافيًا لإحداث الأثر المطلوب – “حَسِبَتْهُ لُجَّةً”، أي ظنت أن ما تراه أمامها هو مسطح مائي واسع. واللُجّة هنا لجذر “لجّ” الذي يعني ارتداد الشيء، قد لا تكون ماءً حقيقيًا، بل هي على الأرجح أسطح زجاجية أو بلورية ضخمة، مصقولة وممهدة بعناية فائقة، تعكس الضوء أو الصور بطريقة توحي بأنها ماء، أو ربما تكون مرايا عملاقة مستوية أو مقعرة، تشكل جزءًا من نظام بصري متطور داخل هذا الصرح. وتصف الآية أرضية هذا الصرح بأنها “صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ”. “المُمَرَّد” هو الشيء المصقول بعناية. أما “القوارير”، ففي هذا السياق التكنولوجي، قد لا تشير إلى أوانٍ زجاجية بسيطة، بل الأرجح، أنها تشير إلى مكونات زجاجية أو بلورية ذات مواصفات خاصة: كعدسات ضخمة، أو أنابيب بصرية، أو ألواح زجاجية ذات نقاء استثنائي وقدرة على الانكسار أو الانعكاس بطرق محددة، مما يعزز فرضية أن هذا “الصرح” كان بالفعل مرصدًا فلكيًا أو مختبرًا بصريًا عملاقًا.
كان المشهد مهيبًا لدرجة أنها، لفرط نقاء السطح العاكس، “وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا”، استعدادًا لخوض ما ظنته ماءً. وهذا الفعل، معناه تعبير عن حالة من الذهول المطلق والاستسلام الكامل أمام قوة العلم والبرهان الذي لا يمكن مقاومته. وعندما نبهها سليمان إلى حقيقة الأمر: “قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ”، تهاوت آخر قلاع الكبرياء والمقاومة في نفسها. اكتملت لديها الصورة عن عظمة هذه الحضارة القائمة على العلم والإيمان. وفي لحظة تجلٍ، أعلنت استسلامها المطلق لله، معترفة بتقصيرها: “قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”. لم يكن إسلام إكراه، بل إسلام اقتناع بالبرهان العقلي والحضاري.
الخاتمة: مملكة سليمان – الدرس الخالد للخلافة الراشدة ومستقبل البشرية
هكذا تختتم هذه الملحمة الفريدة، لا كقصة خيالية، بل كدرس تاريخي عميق، ونموذج متكامل للخلافة الحقيقية في الأرض. إن مملكة سليمان، كما تجلت، لم تقم على أساطير، بل على أعمدة راسخة:
- اليقين والوحي: الانطلاق من هدي الله وشريعته.
- العلم والمعرفة: تسخير كل العلوم المتاحة، وتطوير التقنيات (وعلى رأسها “منطق الطير” الذي يشمل علم السرعة والكفاءة وتكنولوجيا الطيران المتقدمة وتسخير الطاقات) لخدمة الحق وبناء الحضارة.
- القوة المنظمة: بناء جيش قوي ومتنوع (يشمل “الجن” من الخبراء والعلماء، و”الإنس” من الجنود، و”الطير” من قوات النخبة) ونظام استخباراتي فعال، تُستخدم هذه القوة بحكمة وعدل.
- الحكمة والدبلوماسية: استخدام الحجة والبرهان، والدعوة بالحكمة، قبل اللجوء للقوة.
- العدل والتواضع: إقامة العدل الشامل، والشعور بالمسؤولية، ونسبة الفضل دائمًا إلى الله.
إن مملكة سليمان، بهذا الفهم، لم تكن مجرد استعراض للقوة، بل كانت تهدف إلى غاية إنسانية عالمية نبيلة: توحيد البشرية تحت نظام عالمي واحد، يقوم على العدل والإنصاف، ويحقق السعادة والازدهار للجميع. والأمر الأكثر إعجازًا هو أن تحقيق هذه الوحدة لم يتم بالحروب، بل بالحكمة والبرهان والعلم والقوة الرادعة المستمدة من العلم الإلهي. لقد أظهر سليمان للعالم نموذجًا حضاريًا وعلميًا وتقنيًا وإيمانيًا متفوقًا، جعل أي محاولة للمواجهة العسكرية تبدو عبثية. وبهذا، يصبح الخيار الأمثل للممالك الأخرى هو الانضمام طوعًا لهذا النظام. إن قوة العلم الإلهي هي التي توحد القلوب وتقنع العقول.
وقصة ملكة سبأ وخضوعها الطوعي هي المثال الأوضح على ذلك؛ فهي لم تُهزم عسكريًا، بل اقتنعت واستسلمت وأسلمت بعد أن رأت البراهين الساطعة على تفوق مملكة سليمان في كل المجالات. لقد أدركت أن الانضمام لهذا المشروع الحضاري هو الخير لها ولقومها. إن مملكة سليمان، بهذا الفهم العميق، تظل الدرس الخالد للبشرية حول كيفية بناء مستقبل يسوده السلام والعدل، ليس بالسلاح فقط، بل بقوة العلم والمعرفة المستمدة من الهدي الإلهي.